الغرب والصراع على فلسطين في القرن الحادي والعشرين
الغرب والصراع على فلسطين في القرن الحادي والعشرين
الدكتور رمضان عبدالله شلح
بسم الله الرحمن الرحيم
شهد القرن العشرون العديد من الاحداث المدوية التي احدثت تغييرات هائلة على الخارطة الكونية، ففيه اندلعت حربان عالميتان، وانفجرت ثورتان كبريان في روسيا والصين، وانهارت ست امبراطوريات هي العثمانية والالمانية والايطالية واليابانية والنمساوية ـ المجرية واخيرا السوفيتية بانهيار الاتحاد السوفيتي، وحدث تراجع هائل لقوتين من اهم القوى الاستعمارية العالمية، الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي.
واذا كان سقوط الدولة العثمانية (1924) وقيام الدولة اليهودية في فلسطين (1948) هما اهم حدثين عصفا بالشرق الإسلامي في النصف الاول من القرن فإن انتصار الثورة الإسلامية وقيام الدولة الإسلامية في إيران عام 1979 كان الحدث الأبرز بعد سقوط القدس عام 1967 في النصف الثاني من القرن.
وفي ظل التغيرات التي طرأت على النظام الدولي، ومع الاحساس بأن البشرية تمر بمخاض عسر نحو الدخول في قرن جديد وفي عالم جديد يتشكل اليوم، تتزاحم الأسئلة حول موقع الأمّة العربية والإسلامية ومستقبلها على خريطة النظام العالمي وحول قضاياها المصيرية وتفاعلاتها مع العالم.
لكن السؤال عن فلسطين ومصيرها يظل ولاعتبارات كثيرة السؤال المركزي الذي تصطحبه الأمّة معها وهي تدخل القرن الحادي والعشرين. ولعل التطورات الراهنة المتعلقة بهذه القضية تدفع باتجاه الصيغة الأكثر مرارة للسؤال: هل اصبحت فلسطين أندلس ثانية؟
لايمكن الإجابة عن هذا السؤال بمعزل عن السياق التاريخي للمواجهة الحضارية الشاملة بين الأمّة الإسلامية والنظام الدولي بأطواره المختلفة وبنيته القاعدة الاوسع: الغرب.
ضمن هذا السياق يبرز موقع فلسطين في الصراع التاريخي مع الغرب وصولاً الى تداعيات المنعطف التاريخي الفاصل راهناً عبوراً الى مستقبل الأمّة وفلسطين في القرن الحادي والعشرين، وللوقوف على دور الغرب التاريخي في الصراع على فلسطين لابد ان نوضح بداية ماذا نعني بالغرب؟
ليس من السهل أن نقدم تعريفاً دقيقاً للغرب دون البحث في التجربة التاريخية ومجموعة القوى والعناصر المتحولة والثابتة التي تكون منظومة اسمها الغرب.
ليس من الصحيح اختزال الغرب في مدلول جغرافي يتمثل في مثلث تحيط اضلاعه بنصف الكرة الشمالي حيث اوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة. كما ان اختزال الغرب في الرأسمالية فقط كما هو شائع لدى الكثيرين فيه مغالطة تاريخية كبيرة تعني أنّ ما حدث قبل ميلاد الرأسمالية لم تعد تخص الغرب على نفس الدرجة لايمكن اختزال الغرب في زاوية الفلسفة بأنه التنوير والحداثة ولا في زاوية العرق واعتباره الرجل الأبيض ولا في زاوية الدين واعتباره المسيحية.
الغرب هو كل هذه الامور مجتمعة والتي جعلت منه في الوقت الحالي فكرة أيديولوجية اكثر منها جغرافية ومن الناحية الجغرافية والايديولوجية وفي السياق الذي ينسجم وفكرة هذه الورقة يمكن اختزال الغرب ومهما تعددت اضلاعه الى شكل ذي ثلاثة ابعاد رئيسة فهو «هيليني ـ مسيحي ـ يهودي» أي مزيج بين الاغريقية والرومانية والمسيحية البروتستانتية التي أضافت الى هذا المزيج بعداً توراتيا جعلت اليهودية احدى العناصر الاساسية في المركب الحضاري للغرب.
وفي ذات السياق فانّ محاولة وضع تعريف دقيق للنظام الدولي لا تقل تعقيداً عن محاولة تعريف الغرب بل أنّ التداخل بينهما يزيد المسألة تعقيداً فالغرب هو الحامل للنظام الدولي والنظام الدولي هو محصلة تفاعلات الغرب ومكوناته وأدواته في العالم كله، والتوازنات التي تنشأ عن هذه التفاعلات في سياق مباراة دولية رهانها الأكيد في نظر القوى الاستكبارية هو محاولة السيطرة على العالم.
فالنظام الدولي هو مجموعة المؤسسات الاقتصادية العملاقة من شركات متعددة الجنسية وبورصات عالمية وبنوك وشركات تأمين وصناعات واستثمارات ومضاربات، وهو المؤسسات الدولية غير الحكومية كالامم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهو انظمة الحكم من رئاسات وبرلمانات ووزارات وهيئات وهو المؤسسات والجمعيات الخيرية وهو ماكينة الإعلام والإتصالات العالمية الضخمة من صحافة ووكالات انباء ومسموعات ومرئيات وإنترنت وهو مؤسسات التعليم من جامعات ومعاهد وكليات ومدارس ودور حضانة ومراكز بحث ومعلومات وهو الفنون والآداب والسينما والمسرح وهوليود وهو نظام القيم والأخلاقيات ومعايير السلوك والآداب وهو نمط الحياة الحديثة وطرق العيش والإنتاج والتوزيع والإستهلاك وهو آلة الحرب الجهنمية وأسلحة الدمار الشامل النووية والكيميائية والبيولوجية والصواريخ البالستية والطائرات والاسلحة الذرية وهو الجيوش والنظم العسكرية وهو أجهزة قمع وقهر الإنسان من سجون ومعتقلات وشرطة ومحاكم.
هو كل هذه الاشياء وغيرها مما أسهمت في تحقيق انجازات مادية هائلة تقوم عليها حضارة الغرب المعاصرة لكنها انتجت بذرة فنائها التي تهدد مقومات الحياة الإنسانية التي تتجلى ليس في الايدز والمخدرات وتلوث البيئة فقط بل في فكرة الصراع التي طبعت في الذهنية وبالتالي الحياة الغربية على مدار التاريخ لقد بلغ عدد الذين أزهقت أرواحهم من جراء الحروب والصراعات في القرن العشرين فقط حسب بعض التقديرات 168 مليون نسمة.
وحين تكون اليهودية والمسيحية إحدى المكونات الآيديولوجية الأساسية للغرب فمن الطبيعى القول بأن الصدام بين الغرب والأمّة قديم قدم الإسلام الذي هو جوهر شخصية الأمّة وهويتها الحضارية.
لكن الهجمة الصليبية التي أطلقت الكنيسة شرارتها أواخر القرن الحادي عشر الميلادي لتحرير بيت المقدس من المسلمين بنداء البابا أوريان الثاني «فلينهض الغرب لنجدة إخوانه المسيحيين في الشرق» مثلت المحطة الابرز لتورط الغرب الاوروبي في الزحف الاستعماري نحو المشرق الإسلامي لاحتلاله واخضاعه ككيان حضاري ديني ثم جغرافي سياسي.
وعلى مدار القرون الأربعة الأخيرة تعرّض العالم الإسلامي لهجمة غربية من قبل قوى استعمارية مختلفة ظهرت ثمارها في الهجمة المعاصرة التي مازالت مستمرة حتى اللحظة الراهنة وهي الهجمة الأخطر على مدار تاريخ الأمّة من حيث ضعفها وتفككها وتجريدها من قوى فاعلة ليس على صعيد الحكومات فقط بل على صعيد الشعوب التي بفضل تماسكها وصمودها ونهوضها كانت دار الإسلام تعيد بناء توازنها وتقاوم وتدحر أي غاز أو مهيمن اجنبي.
ظل الوطن الإسلامى هدفا للاستراتيجيات الغربية والنظام الدولي على مدار التاريخ نظرا لتمتعه بعدد من المزايا:
1- جغرافياً: يشكل الوطن الإسلامي كياناً قارياً يتجاوز في اهميته الجيوبوليتيكية الكيانات الدولية الأخرى للقوى العظمى، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا. فهذه القوى تمتد على مدى قاري احادي البعد فيما الوطن الإسلامي يشكل حزاماً يمسك بخصر العالم القديم حيث الموقع المتاخم لاوروبا والمرتبط بافريقيا والممتد في عمق اسيا. لقد ظل الصراع بينه وبين اوروبا بأشكال عسكرية واقتصادية ودينية وايدويولوجية متصلا منذ قرون وأصبح أكثر امتداداً في حقبة الامبريالية المعاصرة وقد بدأ الاشتباك الحديث بالهجمات الروسية على الامبراطورية العثمانية ثم بغزو نابليون لمصر.
2- اقتصادياً: يملك الوطن الإسلامي ثروة طبيعية واقتصادية هائلة حيث يحتوي على أضخم ثروة بترولية يحوز بها اكثر من 60 في المائة من مخزون النفط العالمي وغيرها من الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية التي تشكل اداة تحكم سياسية كبيرة لو اُحسن استخدامها.
3- عرقياً: يشتمل على أعرق قومية واثنيات متعددة مثل (العرب، الأتراك، الفرس) حمل بعضها ميراث حضارات قديمة عريقة وتاريخ يحمل خصوصيات تفوق ونبوغ.
4- ديموغرافياً: يشكل المسلمون اليوم خمس سكان البشرية. ويتجاوز وجودهم حدود الرقعة الجغرافية للوطن الإسلامي ممثلا بالبلدان العربية والإسلامية، حيث الاقليات الإسلامية التي تعد بعشرات الملايين في انحاء مختلفة من العالم. وهي أقليات تشكل كيانات ثقافية حضارية في قلب اوروبا والاميركيتين وداخل الحضارات الاسيوية المعاصرة.
5- الإسلام كرسالة عالمية خالدة صنعت من عرب الصحراء أمة عملاقة وقدمت للبشرية واحدة من اهم الحضارات التي عرفها التاريخ.
6- واخيراً، فلسطين، الأرض المباركة والمقدسة، نقطة إلتقاء القارات، ومهبط الديانات، وصعود الحاضرات، وصراع الاستراتيجيات.
إنّ هذه المزايا بدون شك يمكن أن تخلق من العالم الإسلامي قوة عظمى تستطيع التفوق على القوى الاخرى، لكن الواقع أنّها جعلت منه هدفاً للأطماع الاجنبية التي كانت فلسطين ولا زالت مجالاً لاكثرها بشاعة، ألا وهي الاطماع الصهيونية الغربية.
لم يكن احتضان الغرب للمشروع الصهيوني يمثل تحالفاً بين جسمين منفصلين جمعتها المصلحة فقط فالحركة الصهيونية هي نتاج الفكر والمناخ الغربيين بل ان تاريخ الصهيونية هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الحضارة الغربية، وإذا أردنا أن نرصد دور الغرب في اغتصاب فلسطين وانشاء الدولة اليهودية فاننا نسجل الملاحظات التالية:
1- إن اغتصاب فلسطين كان الصيغة الغربية الجديدة لحل المسألة اليهودية بعد فشل الحل النازي بإبادة اليهود، لذا لم يستطع (ضحايا النازية) من قادة المشروع الصهيوني تحمل العبء الأخلاقي باستخدام سلاح الإبادة ضد فريستهم أهل فلسطين، ذلك السلاح الذي عندما استخدم ضدهم شكل مصدر الشرعية الأساس في الدعاية الصهيونية لاحتلال فلسطين، من هنا عدلت الحركة الصهيونية عن الإبادة فاختارت اسلوب طرد وتهجير سكان فلسطين الاصليين الذي جرى وصفه في الغرب بالتعبير المخادع (الترانسفير) الذي كان يعتبر وسيلة مشروعة لحل النزاعات بين الامم.
2- لقد عكس خروج اليهود من اوروبا لاحتلال فلسطين دوراً بارزاً للمسيحية الغربية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي وان بشكل مختلف في اقامة الدولة اليهودية فالصراع بين اليهود والكاثوليك ونظير الاخيرين الى اليهود باعتبارهم قتلة المسيح المنحطين شكل عامل طرد لليهود من اوروبا على قاعدة الكراهية لهم. اما البروتستانتية التي أنتجت الصهيونية المسيحية فاليهود من وجهة نظرهم هم اداة لخلاص العالم الذي لن يتحقق إلاّ بعودة اليهود الى «ارض الميعاد» فلسطين.
3- شكل الدين أهم عنصر من عناصر التعبئة الصهيونية حيث خلعت الحركة الصهيونية القداسة على مشروعها ارضاً (ارض الميعاد) وشعباً (شعب الله المختار) فكانت «الدولة اليهودية» في المشروع الصهيوني وطنا منحه الرب ليهود العالم ولم يجر استبعاد الدين او الحرب عليه داخل المشروع الصهيوني لا في اختيار موقع الدولة أو رموزها أو نظامها السياسي الذي يكفل للاحزاب الدينية المشاركة الكاملة في الحياة السياسية.
4- أراد الغرب الذي احتضن المؤتمر الصهيوني وأصدر وعد بلفور وصك الانتداب واعترف بالكيان الصهيوني، أن يحصل على صك غفران من الحركة الصهيونية بشأن مأساة اليهود والمذابح التي تعرضوا لها في اوروبا. لقد اشترى الضمير الغربي صك غفرانه بصك غفران منحه مقدماً للمشروع الصهيوني عن كل الجرائم التي سترتكبها الصهيونية في حق شعب فلسطين. وهذا ما لاحظه المؤرخ البريطاني توينبي حين رأى أن «ليس من العدالة أن يدفع عرب فلسطين ثمن الجرائم التي قام بها الغرب ضد اليهود». ويقول «ولكن ادعاءهم بأن ما اقترفته النازية بحقهم من جرائم تقضي باعطائهم وطناً خاصاً بهم فهو ادعاء مردود من اساسه، فإذا وجد لهذا ما يبرره فإنّ هذا الوطن الخاص يجب ان يمنح لهم في الأرض الألمانية لا في الاراضي العربية التي يملكها أهلها منذ ثلاثة عشر قرناً».
5- لقد انتقل مركز الثقل الغربي في دعم الكيان الصهيوني منذ نشأته الى الولايات المتحدة الاميركية التي تأكد دخولها الى المنطقة بقوة بعد فشل العدوان الثلاثي ـ بريطانيا وفرنسا واسرائيل ـ على مصر عام 1956 لقد تحركت الولايات المتحدة لتوفير الحماية المباشرة لاسرائيل التي انتهت الى حالة من التماهي بين الطرفين الأميركي والصهيوني في المنطقة.
6- رأى الغرب في الكيان الصهيوني بتكوينه العقائدي والفلسفي امتدادا للغرب ورأس حربة له في قلب العالم الإسلامي على كل المستويات، فالكيان من وجهة النظر الغربية تجسيد لنبوءة الكتاب المقدس وبيت الرجل الابيض (الاشكنازي) رسول الحضارة الغربية في الشرق الإسلامي وقاعدة الاستعمار الغربي والامبريالية في قلب الوطن الإسلامي الطافح بالخيرات والموقع الاستراتيجي بين اسيا وافريقيا الذي يشطر الوطن العربي شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وواحة الديمقراطية الغربية في بحر الديكتاتوريات العربية والإسلامية وكلب الحراسة الغربية لضمان تدفق النفط الى شرايين الحضارة الغربية وأداة الغرب الرئيسة لمواجهة نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة أثناء الحرب الباردة وقاعدة النظام العالمي الجديد في مواجهة الخطر الإسلامي الصاعد.
ضمن هذا السياق كانت «الدولة اليهودية» مشروعاً استراتيجياً يلتمس به الغرب الى جانب الحفاظ على ميراثه الاستعماري غفران ذنبه، وضمان استمرار سعيه ومصالحه في المنطقة من هنا اصبح وجود اسرائيل بالنسبة للغرب طبيعياً وشرعياً فيما استمر رفضها او مقاومتها بأي شكل من الاشكال يمثل خرقاً للشرعية الدولية!
كان زرع الكيان الصهيوني في قلب فلسطين احد ثلاثة حلقات مركزية استكمل بها الغرب هجمته على الوطن الإسلامي فمن اجل ان يقوم هذا الكيان ويضمن له العيش والاستقرار كانت التجزئة في اتفاقية «سايكس بيكو» لضرب وحدة الأمّة التاريخية والتي تزامنت مع انقلاب الحركة العربية ضد الدولة العثمانية لصالح الاجتياح الغربي للمنطقة والحلقة الثالثة هي تدمير هوية الأمّة وشخصيتها الحضارية من خلال الغزو الثقافي الذي تمثل في استيراد وكلاى الغرب في بلادنا منظومات وقوالب فكرية غربية لتدمير عقولنا وأرواحنا وقطع صلتنا بالإسلام الذي اوجد هذه الأمّة وصنع حضارتها العظيمة.
وقد تركت هذه الحلقات بصماتها على ما يسمى بالصراع العربي ـ الصهيوني أو صراع الأمّة مع المشروع الصهيوني ـ الغربي من اجل فلسطين كما يلي:
1ـ طبيعة وأبعاد الصراع
لم تتجاوز قراءة الاتجاه العلماني العربي بألوانه المختلفة للصراع حدود التسويات الدولية التي فرضها الغرب على المنطقة مع بداية القرن بل في ظل نمو حركات التحرر ضد الاستعمار ساد الرأي بأن الصراع في فلسطين مجرد صراع بين امبريالية تطمع في نهب الثروات وتصدير رؤوس الاموال وفتح الاسواق وبين شعب يكافح من اجل نيل حريته واستقلاله وحق تقرير مصيره كأي من حالات مقاومة الإستعمار الحديث اي ان هذه الرؤية لا تقدم تفسيراً للصراع إلاّ فى حدود المنظور الأوروبي، الماركسي او الليبرالي، الذي ينظر الى الحدث كحالة طارئة نتجت عن تطور الرأسمالية التي تطورت بدورها الى امبريالية، هذا التفسير يطمس مركزية فلسطين في الصراع التاريخي بين الأمّة والغرب، ولا يرى في زرع الدولة اليهودية استمراراً تاريخياً للمعارك التي خاضتها الأمّة في اليرموك وأجنادين وحطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بل جرى التأكيد على نفي الجانب العقائدي عن الحروب الصليبية وقطع سياقها مع الهجمة الغربية الحديثة برغم إعلان الجنرال الانجليزي (اللنبي) عندما دخل القدس عام 1917 «اليوم انتهت الحروب الصليبية» وما أعلنه الجنرال الفرنسي «غورو» في دمشق «ها قد عدنا يا صلاح الدين» عندما وقف على قبره.
لم يكن حصر طبيعة الصراع وأبعاده في الجانب الاقتصادي الامبريالي او حتى ربطه بسايكس بيكو ضد الأمّة العربية لتظل قضية فلسطين مجرد قضية تحرر وطني معزولا عن الغزو الثقافي الغربي الذي كان من اهم اهدافه استبعاد المنظور الإسلامي للصراع حيث الإسلام هو المولّد الأكبر لمحفزات وديناميات المقاومة ضد الهيمنة الغربية فلابد من تحييده أو مواجهته عن طريق القمع المباشر لكل محركات الدين الإسلامي في المجتمع.
إنّ الإسلام كعقيدة توحيدية لكل الشعوب والأجناس التي اختارته كدين سماوي، يطرح نفسه من خلال القرآن باعتباره المرجعية في قراءة حركة بني اسرائيل والظاهرة الاسرائيلية في كل مراحل نموها. «ان هذا القرآن يقص على بني اسرائيل اكثر الذي هم فيه مختلفون» ليس من الممكن إسلامياً قراءة وفهم الصراع مع بني اسرائيل خارج حدود هذا النص وغيره من النصوص القرآنية التي تربط بين الإسلام وفلسطين وبني إسرائيل.
من هنا، يبرز موقع فلسطين في الصراع التاريخي بين الإيمان والكفر، أو بين الشرك والتوحيد، والذي تجلى في إعلان انتقال النبوة من بني اسرائيل الذين فشلوا في حمل أمانة التكليف الإلهي «ألاّ تتخذوا من دوني وكيلا» الى حملة الإسلام الرسالة الخاتمة للبشرية هذا الانتقال الذي تحدثت عنه سورة الاسراء (سورة بني اسرائيل) التي روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأها كل ليلة وترسخ بعد قيام دولة الإسلام وبروز الدور اليهودي في مواجهتها وصولاً الى فتح بيت المقدس وبسط الإسلام لسيادته العالمية سيادة حضارة التوحيد في مواجهة حضارة الشرك العالمية.
من هنا تبرز اهمية فلسطين في الوعي الإسلامي والضمير العقدي للامة حيث الربط الإلهي بين المسجد الاقصى والمسجد الحرام بين مكة والقدس أو بين الارض المباركة (فلسطين) وبين الجزيرة العربية مهد الرسالة الإسلامية، كما يربط التخصيص النبوي للمسجد الأقصى باعتباره أحد المساجد الثلاثة التي تُشد إليها الرحال، فلسطين بالعبادة الإسلامية التي توجب على المسلمين تأمين وتيسير الوصول الى المسجد الأقصى بما يفرض على الأمّة أن تكون فلسطين محررة تحت راية الإسلام.
وعليه فان الصراع مع دولة بني اسرائيل في فلسطين هو من صميم الفلسفة التأسيسية للمشروع الحضاري الإسلامي الذي يجب أن تكون فلسطين فيه ليس مجرد ارض لشعب مسلم مشرد ومضطهد تجب نصرته بل هي مركز الصراع الكوني ونقطة صدام الأمّة الإسلامية التاريخي ضد حضارة نهج الشرك التي تستهدف التوحيد في صراع مفتوح الى يوم القيامة كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه لمعاذ بن جبل «من اختار منكم ساحلا من سواحل الشام فهو جهاد الى يوم القيامة».
اذاً، فالصراع على فلسطين في المنظور الإسلامي ليس صراعاً على الأرض أو الثروات أو الموقع الإستراتيجي فحسب بل هو صراع حضاري شامل له جوانبه وأبعاده العقدية والثقافية والاستراتيجية العسكرية والسياسية والاقتصادية هذه الابعاد هي منشأ فكرة مركزية فلسطين في الصراع الاستراتيجي الاقليمي والدولي والحضاري الراهن.
2ـ أطراف الصراع
لقد كلفت القراءة الخاطئة لطبيعة الصراع الأمّة الإسلامية عقوداً من التضحيات والتكاليف حتى أفصحت الإستراتيجية الغربية بقيادة اميركا عن نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة وأعلنت الإسلام عدواً للغرب وأنه الخطر الذي يتهدد المصالح الغربية في المنطقة وعلى رأسها إسرائيل.
لم تقف القراءة المغلوطة للصراع عند حد استبعاد الإسلام كأيديولوجيا وعقيدة حية قادرة على قيادة الصراع وإشعاله في السياق التاريخي والقرآني الذي يقود ضمن سنن وشروط إلهية الى النصر الحتمي بل استبعدت الإسلام ككتلة بشرية يصل تعدادها اليوم المليار مسلم من غير العرب فحرمت الأمّة في صراعها مع الغرب ميزة العامل الديمغرافي وميزة التنوع العرقي الذي وظف إبداع الأعراق والاجناس المختلفة في بناء حضارة ومجد الإسلام فطرحت فلسطين قضية عربية لا تخص اهل تركيا وايران وماليزيا واندونيسيا وباكستان وغيرها من بقاع دار الإسلام التاريخية وسمي الصراع من أجلها بالصراع العربي ـ الصهيوني.
كان طبيعياً أن لا يصمد هذا الطرف طالما استند الى قاعدة التجزئة والدولة القطرية التي اعادت تعريف الصراع الى صراع فلسطيني ـ اسرائيلي ثم الى نزاع فلسطيني ـ اسرائيلي، الفلسطينيون فيه هم اهل الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين لا تزيد عن الضفة الغربية وغزة التي جرى القبول الفلسطيني والعربي الرسمي بتعريفها في اتفاق أوسلو كأراض متنازع عليها لا أراض محتلة.
إنّ هذا الانهيار أو الاخفاق في تحديد اطراف الصراع سواء على صعيد الأمّة أو على صعيد أعدائها أوجد صحوة لدى قطاعات واسعة من جماهير الأمّة لتعيد قضية فلسطين والصراع من أجلها على النصاب التاريخي والطبيعي كقضية إسلامية أولاً وعربية ثانياً وفلسطينية اخيرا حيث الأمّة كلها في مواجهة التحدي الغربي ورأس حربته الكيان الصهيوني.
3ـ آلية وإدارة الصراع
يجمع المراقبون لمسيرة الصراع بعد قرن على انطلاقة المشروع الصهيوني ونصف قرن من قيام الدولة اليهودية على انه لم يكن هناك استراتيجية عربية إسلامية للتصدي للمشروع الصهيوني وبشكل عام تم التعامل مع المشروع الصهيوني تاريخياً من خلال نهجين رئيسين:
أ ـ نهج الرفض والمقاومة
منذ بدايات الهجمة قاوم الفلسطينيون والعرب المشروع الصهيوني وخاضت الأنظمة العربية عام 1948 حربا نظامية خسرها العرب وانتهت بإقامة دولة الكيان لكن الرفض للكيان الصهيوني استمر واستمرت المواجهة العسكرية فخاض العرب حروباً في أعوام 1956، 1967، 1973، 1982، على خلفية أن اسرائيل تشكل خطراً على الأمّة العربية بأسرها ولا ينحصر تهديدها في فلسطين.
وإذا كانت ذروة الرفض العربي تجسدت في مؤتمر الخرطوم عام 1967 بلاءاته الثلاث الشهيرة لا اعتراف لا مفاوضات، لا صلح مع اسرائيل، فإنّ انخفاض سقف الاهداف العربية الى مجرد إزالة آثار عدوان 1967 زرع بذرة الميل العربي الاولى الهامة نحو التسوية، بل اسس قبول العرب لقرار 242 لفكرة النظام الاقليمي الشرق أوسطي الذي يغض الطرف عن اسرائيل ما قبل هزيمة حزيران الأمر الذي أعطى إسرائيل ذريعة ادعاء حق السيادة والملكية لكامل أرض فلسطين، ورفض الاعتراف بأنها سلطة محتلة لأراضي 1967.
وبرغم الانتصار الجزئي الذي حققه العرب في حرب 1973 إلاّ أنّ الهزائم المتكررة والتفوق العسكري المذهل لاسرائيل المتسلحة بالدعم الاميركي اللامحدود والمدججة بترسانة من الاسلحة النووية أوصل النظام العربي الى قناعة استحالة حسم الصراع بالخيار العسكري. ولم يكن غريبا في ظل ارتباط منظمة التحرير او حركة التحرر الوطني الفلسطيني بحركة التحرر العربي، أن تنسحب هذه القناعة لدى قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، التي انتهى بها الامر ليس الى نبذ الكفاح المسلح كطريق لتحرير فلسطين بل الى ملاحقة وتصفية النضال الجماهيري (الانتفاضة) وكذلك الإسلامي المسلح لصالح العدو.
ب ـ نهج التسوية السلمية
يمكن القول إن هذا النهج بروحيته الراهنة قديم قدم الثورة الفلسطينية المعاصرة حيث بدأ مبكرا في دعوة الرئيس التونسي أبو رقيبة عام 1965الى الإعتراف باسرائيل على أساس قرار التقسيم لعام 1947 لكن الارهاصات الجادة بدأت عقب هزيمة عام 1967 في إشارات مؤتمر الخرطوم ثم قبول عبدالناصر لمشروع روجرز عام 1969 وصولاً الى توقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ثم مشروع فهد (1981) وقمة فاس (1982) التي عبرت عن القبول العربي بوجود اسرائيل والاعتراف بها وصولا الى مدريد عام 1991 إثر حرب الخليج الثانية والانطلاقة الاميركية الجديدة في المنطقة وقد أسفر ذلك عن توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 ونشوء سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ثم اتفاقية وادي عربة عام 1994 بين الاردن واسرائيل ثم باقي الاتفاقات الاسرائيلية الفلسطينية التي كان آخرها واي ريفر 1998.
ان القراءة السريعة لتاريخ الصراع في المنطقة تظـهر أن خياري «الحل السلمي» و«الحل العسكري» ليسا منفصلين عن بعهضا فمن خسارة الانظمة الليبرالية العربية لحرب عام 1948 مرورا بهزيمة الانظمة التقدمية عام 1967 الى هزيمة منظمة التحرير واجتياح بيروت عام 1982 كان المراد إيصال المنطقة الى نوع من الاستسلام الذي يوصل الى الاعتراف الكامل بإسرائيل في ظل خلل فادح في ميزان القوى لصالحها يفرز باستمرار عوائق جديدة أمام العرب للقدرة على الحرب.
لكن المؤكد أنّ السلاح النووي الإسرائيلي أو التفوق النوعي في التسليح والأمن والجيوش ليست اكثر خطورة على القدرة العربية على الحرب من اتفاقات السلام والاعتراف بشرعية اسرائيل. فالشرعية التي تمنحها القوة الظالمة او المساعدة الاجنبية للقوى العظمى للكيان الصهيوني لا تساوي شيئاً أمام توقيع صاحب الحق على صك التنازل التاريخي عن فلسطين وهذا ما جرى التأسيس له في اتفاق اوسلو، وينتظر إتمامه في ما يسمى الحل النهائي للصراع الذي يجري تسويقه تحت شعار إعلان الدولة الفلسطينية على فتات الارض.
أي مستقبل للصراع.. أي مستقبل لفلسطين؟
في ظل الهجوم الاميركي ـ الصهيوني الكاسح في المنطقة أصبح المتمسكون بفلسطين متهمون على الأقل بالطوباوية واللاواقعية وأنهم لا يملكون حلاً عملياً يمكن أن يسمح به الغرب أو النظام الدولي الراهن. ومثل هذا الطرح يتجاهل كافة المسلمات السالفة الذكر حول دور الغرب في الصراع وهي مسلمات تقود الى بديهة ومسلمة راسخة في عالم اليوم أن لا أحد في الغرب يقبل بزوال أو تفكيك أو حتى إضعاف اسرائيل وإنهاء تفوقها على محيطها، حتى الاتحاد السوفيتي صديق وحليف العرب السابق لم يكن يسمح بزوال اسرائيل.
وفي الجدال الذي نشب في المنطقة والعالم حول مستقبل علاقة اسرائيل بالغرب وبالذات الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة وهو جدال غير مبرر برأينا، انتصرت وجهة النظر القائلة بالاهمية الاستراتيجية القصوى لاسرائيل ليس كشريك وحليف للولايات المتحدة الاميركية فقط في الحرب ضد «العدو الجديد»: الإسلام، بل في شريك وحليف للنظام العربي الذي اصطف واسرائيل في خندق واحد تحت المظلة الاميركية في قمة شرم الشيخ.
هذا يعني أن مستقبل الصراع على فلسطين هو مستقبل الصراع مع الإسلام في المنطقة والعالم وحين تكون اسرائيل هي رأس الحربة الاميركية في هذا الصراع فأنّ المشكلة في العالم الإسلامي تصبح أكبر من مشكلة فلسطين المشكلة هي اسرائيل في مواجهة دول المشرق العربي والإسلامي التي ترفض الاصطفاف في الخندق اليهودي لمواصلة الحرب اليهودية الصليبية التاريخية ضد الإسلام والمسلمين.
ان مستقبل هذا الصراع لا يتحدد بأوهام الرخاء والاستقرار التي تشيعها أميركا واسرائيل في ظل عملية التسوية في المنطقة ولا بالاحلام التي تقف عند حدود المبشرات الغيبية لدى المتمسكين بثوابت الأمّة العقدية والتاريخية.
ثمة محددات موضوعية مختلفة يتوقف عليها مستقبل الصراع وفلسطين نذكر منها بإيجاز:
1ـ الإمكانات الأيديولوجية والعقدية
لقد اثبتت التجربة التاريخية للامة الإسلامية أن العقيدة هي السلاح الأمضى والعامل الأهم الذي حفظ الأمّة عندما سقطت الدول والنظم السياسية الإسلامية المختلفة. لقد غابت الدول وسقطت المراكز الإسلامية في أتون الصراع المحلي والدولي، لكن التواجد الإسلامي الحضاري ظل قائماً ومتميزاً لأنّ الإسلام عقيدة التوحيد لم يسقط من ضمير ووجدان وحياة المسلمين، إنّ العقيدة وروح الجهاد هي التي حشدت المسلمين وأعطت الدول الإسلامية قدرة على التعبئة أكبر من طاقاتها وامكاناتها المادية التي كانت تتآكل بفعل الصدامات والصراعات الداخلية.
إنّ إعلان الغرب وأميركا الحرب على الإسلام والمسلمين اليوم بدعوى محاربة الإرهاب هو بمثابة حرب تدميرية لعامل التعبئة والتحفيز الاهم الذي يمكن ان يمثل نوعاً من التعويض للقصور المادي الراهن في القوة.
لذا فان انخراط الحكومات الإسلامية في هذه الحرب الصليبية على الإسلام والقوى الإسلامية هو مشاركة في شل جزء هائل من إمكانات الإسلام الحيوية في معركة الصمود والنهوض على خريطة النظام الدولي.
2ـ العامل التقني والقوة
لقد تحولت اسرائيل بفعل العلاقة الاستراتيجية التاريخية بالغرب والولايات المتحدة الى خزان لأحدث النظم التكنولوجية والاسلحة التقليدية منها وغير التقليدية. وقد ضخت موجة الهجرة اليهودية السوفيتية امكانات علمية وتقنية جديدة للاقتصاد والمجتمع الصهيونيين. كما أسهمت حالة الانفتاح التي عاشها الكيان الصهيوني بعد انطلاق عملية السلام في مدريد الى ضخ روافد جديدة للتكنولوجيا من مختلف أنحاء العالم فمنذ مؤتمر مدريد تأسست في اسرائيل 3000 شركة للتكنولوجيا المتقدمة وهو عدد يفوق كل الدول عدا الولايات المتحدة كما اصبح معدل العلماء والمهندسين كنسبة من عدد السكان يفوق معدل أي دولة في العالم. لقد حل الكومبيوتر محل الكيبوتز في بنية الكيان الصهيوني وبدأت اسرائيل تكتسب لقب «وادي السليكون الشرقي» في أوساط الاقتصاد العالمي تشبيها بتلك المنطقة المتفوقة في تكنولوجيا الكومبيوتر في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة وفي حين يفوق الناتج المحلي لاسرائيل والذي يقارب المائة مليار دولار حالياً نظيره في دول الطوق العربية فقد أعلن نتن ياهو قبل سقوطه أن اجمالي الناتج المحلي لاسرائيل يقترب سريعاً من 40 بالمائة من مجمل الناتج المحلي للدول العربية الـ 22 مجتمعة وخلال خمسة عشرة سنة سيتقرب من 80 في المائة!
وهذا يعني ان اسرائيل اذا كانت لا تشكل تهديداً امنياً مباشراً للعرب اليوم في ظل اتفاقات السلام فإنها تمثل تحدياً بل تبديداً مزمناً لكل قواهم وعبئاً يشل قدراتهم على النهوض.
إنّ تدمير الإمكانات العسكرية العراقية على يد اميركا والتحريض الدائم على ايران وسوريا ومصر بحجة امتلاكها لصواريخ بعيدة المدى تهدد الامن الاسرائيلي دليل واضح أن مستقبل القوة العربية والإسلامية رهينة الوجود الصهيوني في المنطقة.
لقد اثبتت التجارب أن أي من الدول القطرية في المنطقة لايمكن ان تتمتع بسيادة كاملة على مواردها وقرارها طالما أن اسرائيل قائمة وهذا يعني أن لا بديل أمام العرب والمسلمين عن بناء القوة الإسلامية لمواجهة القوة الصهيونية المتنامية ولتحسين موقع العالم الإسلامي على خريطة النظام العالمي.
3ـ العامل الديمغرافي
في اللحظة التي يتمكن فيها العرب والمسلمون من امتلاك القوة التي تحيد السلاح النووي في مجال الصراع مع الدولة اليهودية فإن الأخيرة ستواجه قدرها المحتوم الذي واجهته كل الكيانات الغربية التي تزرع في محيط بشري مناقض ومعاد لها، والمثال الحي الذي تختزنه ذاكرة المنطقة هو مصير الكيانات الصليبية التي تفككت وزالت بعد مائتي عام على وجودها في قلب المشرق الإسلامي.
إنّ الشرق الاوسط الذي تحلم اسرائيل بأن تكون قطعة طبيعية في نسيجه سيفوق تعداد سكانه العرب والمسلمين ثلاثة أرباع الميليار خلال عقدين من الزمان، بل ان تقديرات الميزان الديمغرافي الفلسطيني ـ الصهيوني لذات الفترة تتحدث عن وجود 8 مليون فلسطيني داخل فلسطين مقابل 6 مليون يهودي عام 2020 فأي مستقبل ينتظر الأقلية اليهودية في هذا المحيط البشري الرافض لها؟
4ـ العامل الدولي
لقد جرى تسويق مشروع التسوية الراهن عربياً وفلسطينياً بشكل أساسي لاختلال ميزان القوى الدولي لصالح التحالف الاميركي ـ الصهيوني بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ويجري التعاطى مع مسألة النظام الدولي في السياسة العربية باعتبارها من المسلمات الأبدية التي ترى في النظام الدولي الراهن نظاماً أحادي القطبية تتربع على عرشه الولايات المتحدة بلا منازع.
على النقيض من ذلك، تؤكد دراسات دولية جادة بأن النظام الدولي الراهن لم يعد نظاماً أحادي القطبية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هو نظام هجين بين الاحادية والتعددية في ثلاثة مستويات معقدة، الأول تنفرد به الولايات المتحدة كقوة عظمى والثاني يشتمل على مجموعة من القوى الرئيسة في النظام الدولي تشمل فرنسا وألمانيا في أوروبا، وروسيا في (أرو ـ آسيا) والصين في شرق آسيا والهند في جنوب آسيا وايران في جنوب غرب آسيا والبرازيل في اميركا اللاتينية وجنوب افريقيا ونيجيريا في افريقيا وفي مستوى ثالث هناك دول ثانوية تشمل بريطانيا في مواجهة فرنسا والمانيا واوكرانيا في مواجهة روسيا، واليابان في مواجهة الصين وباكستان في مواجهة الهند، والسعودية في مواجهة ايران، والأرجنتين في مواجهة البرازيل.
إن إدارة الولايات المتحدة للنظام الدولي الراهن تعتمد بالدرجة الاولى على إثارة وتأليب دول المستوى الثالث ضد دول المستوى الثاني الرئيسة لإشغالها وتطويقها ومنع صعودها كقوة إقليمية مهيمنة كما يقول صامويل هنتنجتون في احدث دراسة له في مجلة السياسة الخارجية الاميركية وفيها يؤكد على فشل نظام الهيمنة الاميركية ويتنبأ بأن يشهد القرن الحادي والعشرون نظاما متعدد القطبية.
ما نود التأكيد عليه هنا أن النظام الدولي وميزان القوى الذي يفرزه ليست مسألة ثابتة في التاريخ بل هي عرضة للتغير نتيجة عوامل كثيرة وهذا ما أدركه قادة الكيان الصهيوني منذ انتهاء الحرب الباردة فقادوا حملة واسعة من الانفتاح على معظم دول العالم تحسباً لأي انقلاب في موازين القوى العالمية مستقبلا.
يظل السؤال الهام حول موقع العالم الإسلامي في النظام الدولي وهل يمكن أن يبرز المسلمون ككتلة واحدة بكامل امكاناتهم الاستراتيجية والحضارية حتى يكون لهم كلمة في رسم مستقبلهم ومستقبل الصراع مع المشروع الصهيوني ـ الغربي وهم يشكلون خمس سكان العالم؟
اذا كان واقع الحكومات لا يوحي بالايجاب فانّ الرهان الحقيقي يظل على الشعوب خزان القدرة الهائل والوعاء الذي حفظ الأمّة بحمله وحفظه لعقيدتها في الضمائر والقلوب عندما تنهار العروش والدول.
إن التفاعلات التي قد تطرأ على العوامل السابقة وغيرها كمحددات للصراع، ستثبت كما هي التجربة التاريخية للأمّة، أن الغزوة الصهيونية ستندحر، وأن انتخاب الغرب الإسلام عدواً هو انزياح طبيعي بالصراع الى سياقه التاريخي الذي سيوصل الى نقطة الحسم لصالح الإسلام ولن تكون فلسطين بأي حال من الأحوال أندلس ثانية بل إن «اسرائيل» المملكة الصليبية الجديدة هي التي ستمحى من الوجود طال النهار أم قصر.